الأربعاء، 13 مايو 2009

يوسف الصديق علية السلام

عبدالعزيز العرادي:في قصة يوسف يلتقي السرد القصصي الإلهي بواحدة من أثرى القصص الواقعية التي ادخرها من سالف التاريخ الإنساني، ليعرضها بغية التأثير الممتد متى وأينما وجد أولي الألباب، «لقد كان في قصصهم عبرةً لأولي الألباب، ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقومٍ يؤمنون» (يوسف: 111). لقد أفرد القرآن لهذه القصة سورةً كاملة استقرأ فيها كل تفاصيلها المهمة، فعرض للقصة من بدايتها وتابع مراحلها بالسرد الشائق في حبكةٍ فنية رائعة إلى أن أتى على نهايتها، وهو ما لا تجده في جميع قصص القرآن. فإنك قد تلاحظ على كثرة ما خصّصه القرآن من الآيات مثلاً في عرض قصة النبي موسى مع قومه بكل ما ضجّت به من حوادث، تجد أن العرض دائماً ما كان مجتزئاً، إذ يُسلط الضوء على بعض المشاهد من القصة وليس كلها، فتراه يتخير في كل مرة مشهداً واحداً أو مشهدين أو ثلاثة وهكذا، ولكنه لا يعرض للقصة بالكامل في سياقٍ واحد. صحيح أن القرآن الكريم قد خصّ بعض الحوادث والشخصيات التاريخية بأسماء سورٍ كاملة كما نجده في سورة الكهف مثلاً. ولكن بالتفحّص نجد أن المساحة المتاحة لعرض ذلك الحادث أو تلك الشخصية صغيرة نسبياً ولا تأتي على التفاصيل كاملة، بل ربما اكتفت بمعالم الفكرة الرئيسة فقط.دراما القصة كاملة لنأخذ سورة الكهف مثالاً. لقد أجملت الآيات كثيراً من التفاصيل، فلم تذكر منْ هم أهل الكهف؟ أين عاشوا؟ وفي أي عصر؟ إذ يكتفي السرد القرآني في قصصه عنهم على نموذج: «... نحن نقص عليك نبأهم بالحق، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى» (الكهف: 13) أو «وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأْوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا» (الكهف: 16). ولهذا قد تسأل ما هي أغراض السرد للقصة، إن كان هناك أكثر من غرض؟ وبالتالي عن حجم ونوعية وأهمية حوادثها في الطرح القرآني بلحاظ درجة كثافة وتركيز السرد القصصي. هذا ما ستجده مختلفاً بوضوح في سورة يوسف، وهو ما يكشف عن مدى الاهتمام القرآني بها وتعبئتها بجهوزية تأثيرية مكثفة تطرح في سياقٍ متصل واحد!أضف إلى الإجمال المذكور أعلاه فيما خلا سورة يوسف - وإن كان فيها أيضاً بدرجةٍ أقل - نجد أن أية سورة وردت في القرآن وتسّمت باسم حادث أو قوم أو شخصية لم تكن بمجموع آياتها غرضاً لعرض ذلك الحادث أو عن جوانب تلك الشخصية فقط، فقد تشترك فيه أكثر من قصة وتحتشد فيه أكثر من صورة وأكثر من نقل، فنحن نجد على سبيل المثال أن سورة البقرة على ما تبلغت آياتها من الكثرة لم تعرض لحادث أمر الله لقوم موسى بذبح البقرة - الذي به تسمّت السورة - إلا في بضع آيات قليلة، وانصرفت الآيات لتغطي موضوعات وجوانب أخرى كثيرة، من قبيل الصيام، والدين، وغير ذلك كثير. مثال آخر نلحظه في سورة الكهف، ففي حين قد يترقّب أحدهم أن تكون قصة أهل الكهف الحادث الرئيس الذي تدور في فلكه الآيات الشريفة، لكننا نجدها إلى جانب قصة أهل الكهف المختصرة جداً تسرد قصة موسى والخضر، وتتحدث عن شخصين أحدهما مؤمن فقير وآخر غني اغتر بولده وبجاهه وبجنته، إلى أن يأتي الحديث عن مصير تلك الجنة، وتتحدث الآيات عن ذي القرنين، إلخ. وهكذا نجد سورة هود التي تسمّت باسم النبي هود (ع) تتجوّل في الحديث عن كل من النبي نوح (ع) مع قومه، وصالح (ع) وقومه وحديث الناقة، وكذلك عن ضيوف إبراهيم (ع)، وكذلك عن النبي شعيب (ع) وقومه. وهذا بخلاف قصة يوسف التي تكفلت السورة المسماة باسمه بالسرد الكامل وفي سياقٍ متصل لحوادث حياته، فقد ابتدأت به وهو صغير، وتابعت مسيرة حياته شاباً يافعاً تحت الضغوط إلى أن كبر وهو يتحمل صابراً في السجن مدةً طويلة قد تصل إلى ثمانية عشر عاماً كما في بعض الروايات. وبعد خروجه من السجن منتصراً على نفسه منزهاً عن الجريمة بريئاً منها تسنّم مقاما اعتبارياً كبيراً، وهكذا قد أنجز له الله كل ما وعده، فلقد أبدى كل ثباتٍ وعزيمة في مقابل صنوف الترهيب والترغيب، ما انعكس حقيقة في أنه كان يشاهد برهان ربه في مواقفه كلها. لقد خصص الله له سورةً بكاملها واعتبره الشاب النموذجي، إذ قدم لقصته بأنها «أحسن القصص».أحسن القصصلم يصف الحق جلّ وعلى أي قصة أوردها في كتابه الكريم بلفظ «أحسن القصص» ما عدا سورة يوسف، وفي ذلك مغزى وليس اعتباطاً، ففي حين نسلم بأن حديث الله جميعه أحسن الحديث، إلا أن تعبير «أحسن القصص» لم يرد إلا عند ذكر قصة يوسف، وذلك قوله: «نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن» (يوسف: 3). وكان مسارها يجري وفق هذا العنوان: من المأساة يكون الفرج، حيث التسلسل كان: حبل الكذب قصير، هل سيخلو لهم وجه أبيهم؟ من ظلامة الجب إلى بيت العز - «الثمن البخس» أمام ملكاته النادرة - إغراء ورهان خاسر - من السجن إلى سدة العرش - قميص الغم يرجع البصر - لتنبأنّهم به بعد حين.. درس النهاية للبداية.لقد اجتمعت الأسباب على خفضه وأراد الله سبحانه رفعه فكان ما أراده الله من دون الذي توجهت إليه الأسباب والله غالب على أمره، هكذا تفصح لنا الملحمة الرائعة التصوير في سورة يوسف وتبّين أن من عمق المأساة ومن رحمها يكون الفرج الذي به يبطل مفعول تلك المأساة وتتعطل حركتها وتتلاشى، بل تنقلب خيراً وصلاحاً ونعمة، وهنا التوضيح: من مسار الكيد نفسه تأتي النتيجة بالنقيض رأفة ورحمة يحتاجها من مضى في كيده، وهم إخوة يوسف الذين كادوا له فألقوه في غيابة الجب وادعوا على قميصه دماً كذباً، تخبئ لهم أيام الكيد ارتفاع شأن من كادوا له، بل ويستقبلهم ويعفو عنهم.ومن مسار المحنة نفسه بغيابه عن أبيه، وبقميص الكذب الذي هدّ أركان النبي يعقوب وأذهب بالهم والكمد بكاءً على ابنه نور عينيه، سيصيّر الله جل وعلا بتدبيره أن يكون القميص أيضاً بمثابة السبب في رجوع نورهما المفقود. ومن ظلامة الجبّ حيث شبح الموت المنتظر ومكان الهوان إلى بيت الملك حيث العز والدلال ومكان «أكرمي مثواه». وكان هذا «أول ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف.. حيث توسل إخوته بإلقائه في الجب وبيعه من السيارة إلى إماتة ذكره وتحريمه كرامة الحياة في بيت أبيه، أمّا إماتة الذكر فلم ينسه أبوه قط، وأما مزية الحياة فإن الله سبحانه بدل له بيت الشَعَر وعيشة البدوية قصراً ملكياً وحياة حضرية راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا أن يحطوه ويضعوه، وعلى ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث» (تفسير الميزان للطباطبائي). وكون من باعه عندما استخرجوه من البئر قد زهد فيه، إذ «باعوه بثمن بخس دراهم معدودة» وإذا به يتحول إلى عملة نادرة بسمو صفاته وملكاته وبجماله الأخاذ حتى كان ملاذ عشق وغرام حسناء عصرها زليخة الوحيد «قد شغفها حباً» بل تعداها لكل رديفاتها من النسوة في المدينة هياماً حين رأينه وقد أكبرنه وأخذن يقطعن أيدهن مأسورات بحسن هيئته وجماله. ومن عظيم صبره على كيدهن والإدعاء الكاذب آثر السجن على السقوط في الرذيلة، ولكنه في سنوات معدودة حين أرادوا إخراجه أبى أن يخرج إلا وصك براءته في يده فكان له ما أراد وانهارت دعوة الكيد وانقلبت خاسرةً وعلى الملأ اعترفت زليخة أنها هي من راودته عن نفسه فكذبت وكان من الصادقين. ومن حيث السجن بيت الغربة وموطن الضياع وتحطم الآمال إلى الاستخلاص التام للملك. هذا النوع من المقابلة في التصوير بين ما هي الظروف الخارجية الضاغطة وبين التدبير الإلهي الخفي في جميع الحوادث يكشف عن عمق اللطف وعظيم أثر الإيمان والصبر على المآل والنتائج. إننا لسنا أمام حدث واحد بمقدمة ونتيجة أو بظروف بسيطة ومصير قصير المدى، بل نحن أمام قصة حياة من أولها إلى آخرها تستهدي هذا القانون وتسير وفقه، وبالتالي تتطابق معه تصديقاً به تكشف عنه جميع الحوادث. إن درس الصبر والجزاء الإلهي عليه عاجلاً - في الدنيا -، وفي الآخرة «ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون» هو البنية الحقيقية للهيكل العام للقصة أو اللب المستخلص منها.استحضار النعم وحسن الخاتمة«فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين (99) ورفع أبويه على العرش ورفع أبويه على العرش وخروا له سجّداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم (100) رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين (101)». كثيرة هي الدروس في هذا المقطع القرآني، منها استحضاره للنعم الإلهية وثناؤه على الله، في كامل يقين ومطلق تسليم. ونلاحظ أدبه الرفيع مع إخوته فلم يعنّف عليهم بل حتى عند ذكره للتاريخ المؤلم معهم لم يكن ليؤنبهم بالطريقة المقززة، بل بتوسط الشيطان الرجيم الذي نزغ بينه وبينهم، فالمشكلة الحقيقية كانت في الشيطان والاستجابة لنوازعه. ومن أخلاقه كذلك تواضعه لأبويه إذ رفعهما على العرش، على أن الدرس الأعظم يبقى في محورية الله من حركة الإنسان «.. فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة..».من آخر دروس سورة يوسف (ع) بعد أن أنفذ الله أمره وأنجز له وعده وجعله قرة عين لأبويه ولمّ شم عائلة يعقوب بعد أن تاب إخوته من خطيئتهم، أن يستحضر يوسف عليه السلام هذه النعم بين يديه ويشكر الله عليها. إن الملك والنعيم الذي ختم الله به ليوسف (ع) لم يكن نهاية المطاف وليس غاية المنى الحقيقي، فها هو يطلب داعياً الله أن يتوفاه مسلماً بأن يجعل ختام حياته إسلاماً بالروح والقلب واللسان، كما كانت بداية حياته. فما يعوّل عليه حقيقة ليس هذه الأمور الفانية، بل الفوز بحسن الخاتمة والعاقبة الخيرة للأمور؛ لأن سجل العمر ينتهي بانتهائها ويتعلق بها الحكم النهائي عليه.- كاتب بحريني عبدالعزيز العرادي:في قصة يوسف يلتقي السرد القصصي الإلهي بواحدة من أثرى القصص الواقعية التي ادخرها من سالف التاريخ الإنساني، ليعرضها بغية التأثير الممتد متى وأينما وجد أولي الألباب، «لقد كان في قصصهم عبرةً لأولي الألباب، ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقومٍ يؤمنون» (يوسف: 111). لقد أفرد القرآن لهذه القصة سورةً كاملة استقرأ فيها كل تفاصيلها المهمة، فعرض للقصة من بدايتها وتابع مراحلها بالسرد الشائق في حبكةٍ فنية رائعة إلى أن أتى على نهايتها، وهو ما لا تجده في جميع قصص القرآن. فإنك قد تلاحظ على كثرة ما خصّصه القرآن من الآيات مثلاً في عرض قصة النبي موسى مع قومه بكل ما ضجّت به من حوادث، تجد أن العرض دائماً ما كان مجتزئاً، إذ يُسلط الضوء على بعض المشاهد من القصة وليس كلها، فتراه يتخير في كل مرة مشهداً واحداً أو مشهدين أو ثلاثة وهكذا، ولكنه لا يعرض للقصة بالكامل في سياقٍ واحد. صحيح أن القرآن الكريم قد خصّ بعض الحوادث والشخصيات التاريخية بأسماء سورٍ كاملة كما نجده في سورة الكهف مثلاً. ولكن بالتفحّص نجد أن المساحة المتاحة لعرض ذلك الحادث أو تلك الشخصية صغيرة نسبياً ولا تأتي على التفاصيل كاملة، بل ربما اكتفت بمعالم الفكرة الرئيسة فقط.دراما القصة كاملة لنأخذ سورة الكهف مثالاً. لقد أجملت الآيات كثيراً من التفاصيل، فلم تذكر منْ هم أهل الكهف؟ أين عاشوا؟ وفي أي عصر؟ إذ يكتفي السرد القرآني في قصصه عنهم على نموذج: «... نحن نقص عليك نبأهم بالحق، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى» (الكهف: 13) أو «وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأْوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا» (الكهف: 16). ولهذا قد تسأل ما هي أغراض السرد للقصة، إن كان هناك أكثر من غرض؟ وبالتالي عن حجم ونوعية وأهمية حوادثها في الطرح القرآني بلحاظ درجة كثافة وتركيز السرد القصصي. هذا ما ستجده مختلفاً بوضوح في سورة يوسف، وهو ما يكشف عن مدى الاهتمام القرآني بها وتعبئتها بجهوزية تأثيرية مكثفة تطرح في سياقٍ متصل واحد!أضف إلى الإجمال المذكور أعلاه فيما خلا سورة يوسف - وإن كان فيها أيضاً بدرجةٍ أقل - نجد أن أية سورة وردت في القرآن وتسّمت باسم حادث أو قوم أو شخصية لم تكن بمجموع آياتها غرضاً لعرض ذلك الحادث أو عن جوانب تلك الشخصية فقط، فقد تشترك فيه أكثر من قصة وتحتشد فيه أكثر من صورة وأكثر من نقل، فنحن نجد على سبيل المثال أن سورة البقرة على ما تبلغت آياتها من الكثرة لم تعرض لحادث أمر الله لقوم موسى بذبح البقرة - الذي به تسمّت السورة - إلا في بضع آيات قليلة، وانصرفت الآيات لتغطي موضوعات وجوانب أخرى كثيرة، من قبيل الصيام، والدين، وغير ذلك كثير. مثال آخر نلحظه في سورة الكهف، ففي حين قد يترقّب أحدهم أن تكون قصة أهل الكهف الحادث الرئيس الذي تدور في فلكه الآيات الشريفة، لكننا نجدها إلى جانب قصة أهل الكهف المختصرة جداً تسرد قصة موسى والخضر، وتتحدث عن شخصين أحدهما مؤمن فقير وآخر غني اغتر بولده وبجاهه وبجنته، إلى أن يأتي الحديث عن مصير تلك الجنة، وتتحدث الآيات عن ذي القرنين، إلخ. وهكذا نجد سورة هود التي تسمّت باسم النبي هود (ع) تتجوّل في الحديث عن كل من النبي نوح (ع) مع قومه، وصالح (ع) وقومه وحديث الناقة، وكذلك عن ضيوف إبراهيم (ع)، وكذلك عن النبي شعيب (ع) وقومه. وهذا بخلاف قصة يوسف التي تكفلت السورة المسماة باسمه بالسرد الكامل وفي سياقٍ متصل لحوادث حياته، فقد ابتدأت به وهو صغير، وتابعت مسيرة حياته شاباً يافعاً تحت الضغوط إلى أن كبر وهو يتحمل صابراً في السجن مدةً طويلة قد تصل إلى ثمانية عشر عاماً كما في بعض الروايات. وبعد خروجه من السجن منتصراً على نفسه منزهاً عن الجريمة بريئاً منها تسنّم مقاما اعتبارياً كبيراً، وهكذا قد أنجز له الله كل ما وعده، فلقد أبدى كل ثباتٍ وعزيمة في مقابل صنوف الترهيب والترغيب، ما انعكس حقيقة في أنه كان يشاهد برهان ربه في مواقفه كلها. لقد خصص الله له سورةً بكاملها واعتبره الشاب النموذجي، إذ قدم لقصته بأنها «أحسن القصص».أحسن القصصلم يصف الحق جلّ وعلى أي قصة أوردها في كتابه الكريم بلفظ «أحسن القصص» ما عدا سورة يوسف، وفي ذلك مغزى وليس اعتباطاً، ففي حين نسلم بأن حديث الله جميعه أحسن الحديث، إلا أن تعبير «أحسن القصص» لم يرد إلا عند ذكر قصة يوسف، وذلك قوله: «نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن» (يوسف: 3). وكان مسارها يجري وفق هذا العنوان: من المأساة يكون الفرج، حيث التسلسل كان: حبل الكذب قصير، هل سيخلو لهم وجه أبيهم؟ من ظلامة الجب إلى بيت العز - «الثمن البخس» أمام ملكاته النادرة - إغراء ورهان خاسر - من السجن إلى سدة العرش - قميص الغم يرجع البصر - لتنبأنّهم به بعد حين.. درس النهاية للبداية.لقد اجتمعت الأسباب على خفضه وأراد الله سبحانه رفعه فكان ما أراده الله من دون الذي توجهت إليه الأسباب والله غالب على أمره، هكذا تفصح لنا الملحمة الرائعة التصوير في سورة يوسف وتبّين أن من عمق المأساة ومن رحمها يكون الفرج الذي به يبطل مفعول تلك المأساة وتتعطل حركتها وتتلاشى، بل تنقلب خيراً وصلاحاً ونعمة، وهنا التوضيح: من مسار الكيد نفسه تأتي النتيجة بالنقيض رأفة ورحمة يحتاجها من مضى في كيده، وهم إخوة يوسف الذين كادوا له فألقوه في غيابة الجب وادعوا على قميصه دماً كذباً، تخبئ لهم أيام الكيد ارتفاع شأن من كادوا له، بل ويستقبلهم ويعفو عنهم.ومن مسار المحنة نفسه بغيابه عن أبيه، وبقميص الكذب الذي هدّ أركان النبي يعقوب وأذهب بالهم والكمد بكاءً على ابنه نور عينيه، سيصيّر الله جل وعلا بتدبيره أن يكون القميص أيضاً بمثابة السبب في رجوع نورهما المفقود. ومن ظلامة الجبّ حيث شبح الموت المنتظر ومكان الهوان إلى بيت الملك حيث العز والدلال ومكان «أكرمي مثواه». وكان هذا «أول ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف.. حيث توسل إخوته بإلقائه في الجب وبيعه من السيارة إلى إماتة ذكره وتحريمه كرامة الحياة في بيت أبيه، أمّا إماتة الذكر فلم ينسه أبوه قط، وأما مزية الحياة فإن الله سبحانه بدل له بيت الشَعَر وعيشة البدوية قصراً ملكياً وحياة حضرية راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا أن يحطوه ويضعوه، وعلى ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث» (تفسير الميزان للطباطبائي). وكون من باعه عندما استخرجوه من البئر قد زهد فيه، إذ «باعوه بثمن بخس دراهم معدودة» وإذا به يتحول إلى عملة نادرة بسمو صفاته وملكاته وبجماله الأخاذ حتى كان ملاذ عشق وغرام حسناء عصرها زليخة الوحيد «قد شغفها حباً» بل تعداها لكل رديفاتها من النسوة في المدينة هياماً حين رأينه وقد أكبرنه وأخذن يقطعن أيدهن مأسورات بحسن هيئته وجماله. ومن عظيم صبره على كيدهن والإدعاء الكاذب آثر السجن على السقوط في الرذيلة، ولكنه في سنوات معدودة حين أرادوا إخراجه أبى أن يخرج إلا وصك براءته في يده فكان له ما أراد وانهارت دعوة الكيد وانقلبت خاسرةً وعلى الملأ اعترفت زليخة أنها هي من راودته عن نفسه فكذبت وكان من الصادقين. ومن حيث السجن بيت الغربة وموطن الضياع وتحطم الآمال إلى الاستخلاص التام للملك. هذا النوع من المقابلة في التصوير بين ما هي الظروف الخارجية الضاغطة وبين التدبير الإلهي الخفي في جميع الحوادث يكشف عن عمق اللطف وعظيم أثر الإيمان والصبر على المآل والنتائج. إننا لسنا أمام حدث واحد بمقدمة ونتيجة أو بظروف بسيطة ومصير قصير المدى، بل نحن أمام قصة حياة من أولها إلى آخرها تستهدي هذا القانون وتسير وفقه، وبالتالي تتطابق معه تصديقاً به تكشف عنه جميع الحوادث. إن درس الصبر والجزاء الإلهي عليه عاجلاً - في الدنيا -، وفي الآخرة «ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون» هو البنية الحقيقية للهيكل العام للقصة أو اللب المستخلص منها.استحضار النعم وحسن الخاتمة«فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين (99) ورفع أبويه على العرش ورفع أبويه على العرش وخروا له سجّداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم (100) رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين (101)». كثيرة هي الدروس في هذا المقطع القرآني، منها استحضاره للنعم الإلهية وثناؤه على الله، في كامل يقين ومطلق تسليم. ونلاحظ أدبه الرفيع مع إخوته فلم يعنّف عليهم بل حتى عند ذكره للتاريخ المؤلم معهم لم يكن ليؤنبهم بالطريقة المقززة، بل بتوسط الشيطان الرجيم الذي نزغ بينه وبينهم، فالمشكلة الحقيقية كانت في الشيطان والاستجابة لنوازعه. ومن أخلاقه كذلك تواضعه لأبويه إذ رفعهما على العرش، على أن الدرس الأعظم يبقى في محورية الله من حركة الإنسان «.. فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة..».من آخر دروس سورة يوسف (ع) بعد أن أنفذ الله أمره وأنجز له وعده وجعله قرة عين لأبويه ولمّ شم عائلة يعقوب بعد أن تاب إخوته من خطيئتهم، أن يستحضر يوسف عليه السلام هذه النعم بين يديه ويشكر الله عليها. إن الملك والنعيم الذي ختم الله به ليوسف (ع) لم يكن نهاية المطاف وليس غاية المنى الحقيقي، فها هو يطلب داعياً الله أن يتوفاه مسلماً بأن يجعل ختام حياته إسلاماً بالروح والقلب واللسان، كما كانت بداية حياته. فما يعوّل عليه حقيقة ليس هذه الأمور الفانية، بل الفوز بحسن الخاتمة والعاقبة الخيرة للأمور؛ لأن سجل العمر ينتهي بانتهائها ويتعلق بها الحكم النهائي عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق